بين جمهرة المفسرين العرب- وعددهم بالآلاف- يحتل ابن سيرين (أبو بكر محمد بن سيرين، توفي عام 728 ب.م) مكانة خاصة. و "كتاب الأحلام المجموعة" الذي ألّفه يمثل زبدة معارف ذلك الزمان. إن القاعدة متعددة الوجوه التي يستند إليها الطبيب ومفسر الأحلام ابن سيرين تتكون تقريباً من ثمانين مفتاحاً للأحلام في الأدب العربي، يضم كل منها ما معدله ألف تفسير.
وشخصية ابن سيرين تبدو لنا، هي الأخرى، متعددة الوجوه. فمن جهة، يقال إنه "كان يبكي ليلاً ويصلي نهاراً ويصوم كل يومين". في غضون ذلك، كان يجد الوقت للاهتمام بقضايا الدنيا: فقد أنجب ثلاثين (!) ولداً، ولحسن الحظ! إنه لم يكن بينهم أكثر من عشر بنات. ونقرأ عنه في مكان آخر: "لم يقع أحد على رجل قانون أكثر ورعاً، أو مؤمن أكثر ثقافة". "كان تقياً إلى حد أنه لم يكن يريد أن يدفع المسلمون إيجاراً لبيوته". لذا كان يتّبع مبدأ يقضي بألاّ يؤجر إلا الكفّار ليتحاشى وخز الضمير. كان الناس يعتبرونه فيلسوفاً، إلا أنهم لو عرفوا أن هذا الحكيم اضطرب يوم تنبأ أحدهم بوفاته، لفقدت صورته بعضاً من صفائها ورونقها. زعموا أن ابن سيرين كان يأكل حين ظهرت امرأته وقالت له: "رأيت حلماً. رأيت القمر يدخل في الثريا. ثم صرخ القمر: "أنا لسان حال الله. إمضي إلى ابن سيرين وقصي عليه رؤياك!" فخرج ابن سيرين عن طوره وأمسك بامرأته بكلتا يديه وصاح: "كيف رأيته?" فكررت المرأة حلمها. فشحب ابن سيرين كميت ووضع يديه على بطنه. فسألته ابنته: "ما الذي دهاك فأصبحت بهذا الشحوب?" فأجاب: "كيف لا أشحب إذا كانت هذه المرأة تزعم أني سأموت في مهلة سبعة أيام!" وبالفعل، مات ابن سيرين ودفنوه في اليوم السابع.
ولقد كان ابن سيرين متناهي الحذر في تفسير الأحلام. فمن أصل أربعين حلماً تعرض عليه لم يكن يجرؤ أن يفسر أحياناً أكثر من حلم واحد، وذلك بعد تفكير عميق. إن مجموعة تفسير الأحلام لابن سيرين صغيرة نسبياً، مع أنها تضم بمجملها خلاصة تفسير الأحلام في عصره. وهي تقتصر على تعداد الموضوعات الأكثر أهمية: النساء والرجال، أجزاء الجسم الإنساني، الزيجات، حالات الحمل، الولادة، والموت، الأدوات المتنوعة، الأسلحة، الحيوانات، النباتات، الطقس والمناظر. وباختصار، تتناول دائرة حياة الإنسان في ذلك الزمن بكل اتساعها. فأرتميدور الإغريقي المترجم إلى العربية، والشرح اليهودي للتوراة وكل العناصر الأخرى تقريباً في فن التفسير القديم، كلها تتلاقى في عمل ابن سيرين. لا بل يشكل ابن سيرين مدخلاً، جزئياً، إلى تفسير الأحلام الحديث. وحلم "العصفور" الذي لم يكن عصفوراً يعطي البرهان على ذلك:
فلقد أتى رجل يوماً على ابن سيرين وقال: "حلمت أني ألقيت القبض على عصفور لأقطع رأسه. وقد رفعت سكيني ثلاث مرات فوق عنقه. إلا أني لم أقطع رأسه إلا في المرة الرابعة". فقال ابن سيرين: "يعني هذا الحلم أنك عانقت فتاة ثلاث مرات من دون أن تفتضّها. ولم يقيّض لك ذلك إلا في المرة الرابعة". فأجاب الرجل: "صدقت، فقد حدث لي ذلك منذ خمسة أيام".
وابن سيرين لا يختلف عن فرويد في تفسيره السكين كرمز للقضيب ("كل الأسلحة المتطاولة والحادة، مثل السكين والخنجر، ترمز إلى العضو التناسلي لدى الذكر")، والاعتداء كرمز للجنس، والعصفور- الرمز ثنائي الجنس كرمز لعضو العذراء.
ووفاقاً للتقليد، يعترف ابن سيرين حسب كتاب تفسير الاحلام عبر العصور بثلاثة أنواع من الأحلام: الأحلام الحقيقية، وهي الوحيدة المهمة، وتأتي من الله؛ والأحلام الرديئة المؤذية، التي يرسلها الشيطان؛ وتلك التي لا معنى لها والتي مصدرها ذو طبيعة عضوية صرفة.
كانت هنالك أربعة أنظمة للتفسير:
1- التفسير على أساس اشتقاق الكلمات، الذي يواجه مفهومين، الواحد بالآخر، لمجرد أنهما يمثلان تعاقب الأصوات ذاتها.
2- التفسير بالاستعانة باستشهادات من القرآن. يحلم أحدهم، مثلاً، إنه على ظهر مركب، فيتم التفسير بالرجوع إلى سورة في القرآن تقول: "فنجّيناه ومن معه في الفُلْك". فالمركب (أو الفلك) يعني بالتالي النجاة في وضع صعب.
3- التفسير عن طريق علم رموز الأعداد. في هذا النظام المبالغ في التعقيد، تسجّل الأحلام كرسالة مرموزة- على أن يتناسب كل حرف مع عدد، حسب الترتيب الألفبائي. وبعد العديد من عمليات الجمع والطرح، فإن النتيجة- المحوّلة مجدداً إلى أحرف- تقدم التفسير.
4- التفسير عن طريق الرموز، وقد كان الأكثر إثارة للاهتمام والأكثر رواجاً. إن نظام الرموز العربي على علاقة وثيقة بمجمل التراث القديم. هكذا رمز الخير النموذجية هي: البراز، والقمح، والحليب. ورموز الرجل هي: الحرية والسيف والجبل والحيوانات المذكرة، وأنواع الشجر. أما رموز المرأة فهي الأحذية، والألبسة الداخلية والعصافير المؤنثة، والمرايا والأوعية. والبيضة هي أيضاً رمز معتاد جداً للحياة والخصب والعائلة والأولاد. و "الوجود في البيضة" هو المرادف المصري للـ "شباب"، لذا ففتح بيضة أو كسرها يعني اقتراف جريمة قتل. وكانت البيضة أيضاً مرادف النعش- فالقشرة تعني الصندوق والمضمون يعني الميت المدعو إلى القيامة.
إن تفسيراً أعطاه ابن سيرين لأحد الأحلام يشرح هذا التصور: فقد كان أحدهم يريد أن يعرف أي تفسير عليه أن يعطي لرجل كان يكسر في الحلم البيض، فيخرج البياض ويترك الصفار في القشرة. ولم يكن ابن سيرين يود إعطاء التفسير إلا للحالم شخصياً. وقد ألحّ الغريب طيلة أيام عديدة من دون جدوى، فابن سيرين رفض الكلام. وفي الأخير اعترف الرجل أنه هو الذي رأى تلك الأحلام. فقال له ابن سيرين: "أقسم لي بأنك أنت الذي حلم هذا الحلم!" فأقسم الرجل. عند ذلك صرخ ابن سيرين بالحضور: أقبضوا على هذا الرجل وسوقوه إلى القاضي، لأنه يخرج الموتى من النعوش وينهب ما عليهم".
إن تفسير الأحلام عند العرب لم يكن يولي كل الحالمين الأهمية نفسها. "فحقيقة" الأحلام لم تكن تتوقف على الله وحده الذي يرسلها، بل على الشخص الحالم: كانت الأحلام الأكثر صحة هي أحلام الملك والعبيد، ثم بالترتيب، أحلام الرجال فالنساء فالأطفال.
وما يثير الاهتمام إنما هو توزيع الأحلام وفقاً للأمزجة، وهو تمييز يرجع على الأرجح إلى أبقراط. فالحالمون ذوو "المزاج الأصفر" (الغضوبون) يرون النار والمصابيح ويشعرون بالحرارة. أما "السود" (الكئيبون) فيرون الظلمات والأفاعي والعقارب، و "البيض" (الباردون) يرون الماء والأنهار والثلج، و "الحمر" (الدمويون) يرون البساتين والحقول والنباتات والدم.
وطبع الحالم يلعب دوراً مهماً. "من يرغب في أن تتنبأ له الأحلام بالحقيقة، يقلْ الحقيقة ويمتنع عن النميمة والوشاية ، فإذا كان هو كذباً لكنه يكره أكاذيب الآخرين، تكون أحلامه حقيقية. أما إذا كان يكذب ولا يكره أكاذيب الآخرين فلا تكون أحلامه حقيقية على الإطلاق.
وبما يخص التفسير، فمن المهم أن تعرف إلى أي شعب أو دين أو مهنة ينتمي الحالم. فقد كان ابن سيرين يعلن ما يلي: "بالنسبة إلى جندي محترف تم تسريحه، يعني الاستعداد للقتال: التوظيف؛ وبالنسبة إلى جندي في الخدمة: الانتصار؛ وبالنسبة إلى زاهد: تفاهة زهده؛ وبالنسبة إلى أشخاص آخرين: الحرب الأهلية والعداء". ثم يقول فيما بعد: "إذا حلم أحدهم بأنه أكل حيواناً ميتاً، فهذا يعني أموالاً محظورة أو هموماً بالنسبة إلى أولئك الذين تحظر ديانتهم هذا النوع من الطعام؛ أما بالنسبة إلى آخرين يؤمنون بأنه مسموح أكل هذا اللحم فيعني ذلك أرباحاً وموارد مالية. "وإذا حلمت امرأة أنها تمارس الفجور في المسجد وأمام الجميع فهذا يعني أنها ستجوع وتجد نفسها في ورطة. لكن إذا كانت هندية فهذا يعني أنها ستقترب من الله وتتلقى خيرات، لأن الهنود يسعون للاقتراب من الله بوسائل فاحشة، إذ إن دينهم غير ذي قيمة في رأي ابن سيرين.
وينبغي أن نأخذ كذلك بالاعتبار المكان الذي يوجد فيه الحالم. "ففي بلاد حارّة، إذا حلم أحدهم بالثلج أو الجليد أو البرد، فهذا يشير إلى جدب وحصاد رديء؛ أما بالنسبة إلى ساكن بلد بارد فهذا يعني حصاداً وفيراً ويسراً". "وإذا حلم أحدهم أنه عار في أحد الأسواق، فيعني ذلك إذلالاً. وإذا كان في بيته، داخل مغطس الحمام، فهذا لا يعني شيئاً".
كما يجب أن نأخذ بالحسبان الساعة من النهار أو الليل التي تحلم فيها. فكلما كان الحلم قريباً من الفجر، كلما كان تحققه سريعاً.
والنذائر تتحقق بأسرع من البشائر، لكن حتى الأولى يمكن أن تنتظر 40 عاماً.
والفصل، هو الآخر، يدخل في الحسبان. فمن يحلم أنه قطف في الربيع 70 ورقة من شجرة يقبض 70 قطعة من الفضة، بينما تعني سبعون ورقة في الخريف (أوراق يابسة تتساقط) سبعين جلدة.
إن آداب مفسري الأحلام كانت تشترط إعلام الحالم بالأحلام السيئة بصورة لبقة إلى أقصى الحدود الممكنة، وبتعابير عادية وغامضة... وحين يتعلق الأمر بشخصيات مرموقة كانوا يبررون الأحلام الرديئة. بعمل الكبد غير السليم الذي يكدر الدماغ بـ "أبخرته المؤذية".
وفضلاً عن ذلك كان يليق بالمفسر أن يتلفظ بالجملة التالية قبل أن يبدأ الحالم روايته: "فليكن ما حلمت به حسناً! فإذا كان سيئاً فلنأخذ حذرنا! الحسن لنا والسيء لأعدائنا! المجد لله سيد المخلوقات! قصّ عليّ حلمك!".
وما أن تنتهي هذه الدعوة الاحتفالية، حتى يكون على الحالم أن يلزم جانب الصدق. أما المفسر فيفكر بما هو مكتوب: "إذا جرؤ أحدهم على التفسير بصورة غير شريفة، فالحسن الذي يتوقعه يتحقق للزبون، أما السيء فللمفسر". ولا شيء يدهش في أن المفسرين العرب حصلوا على تقدير العالم أجمع لسعة معازمهم ولشهامتهم، لكن كذلك لتحفظهم الحذر.
إن معظم مفسري الأحلام الفرس عاشوا بصورة شبه كلية على المصادر العربية: فنحن نجد في القرن الثامن ب.م. جعفر الصادق، وفي القرن الثاني عشر، أبا المجد مجدود بن آدم سنائي الذي يتشبَّع مؤلّفه "بستان الحقيقة المقفل" بالروح العربية، هو الآخر، من الصفحة الأولى إلى الصفحة الأخيرة.